هذه قصتي
علاقتي باللغة العربية كانت دائماً مضطربة. فهي لم تكن اللغة الأم؛ لم أبدأ بالعامية ثم الفصحى. ما جرى معي كان العكس. فقد تعلمت من التلفزيون والمدرسة؛ ثم تعلمت من سليم بركات ومحمود درويش، وحيدر حيدر، وعبد الرحمن منيف ومهدي عامل وغيرهم الكثير. وفي السنوات الأخيرة بدأت أتعلم من الجاحظ وعبد القاهر الجرجاني وأبي هشام الأنصاري؛ ليتني بدأت بهم. طو ال الرحلة كان ثمة سؤال يزداد إلحاحاً كلما عرفت العربية أكثر:
ما الذي يُضفي الحُسْن على جملة عربية ما؟ ما المزيَّة فيها؟
كيف تنتقل الجملة المكتوبة من الغموض إلى الوضوح؟
لماذا تحمل هذه الجملة تفسيراً واحداً، وتلك تَفْسرَين أو أكثر؟
الإجابة ليست سهلة. ما كانت يوماً.
قبل ألف عام، انتبه عبد القاهر الجرجاني إلى أمر المزيَّة في الجملة العربية، وأنّ النحاة لا يتناولونها في كتاباتهم، وإن تحدّثوا عنها، فالغموض فيه كثير. وبَاتَ هاجسه التعرّف على الشيء الذي صار به الكلام الحسن حسناً. انظر إلى ما يقول في كتابه «دلائل الإعجاز» عن الهالة التي ضُرِبَت حول الجملة العربية، حتى بات يخال للناس أن تعلّم كتابة الجملة الحسنة بابه مسدود:
المزيَّة في الجملة العربية
«وينبغي أن نأخذَ الآنَ في تفصيل أمرِ المزيَّةِ، وبيانِ الجهاتِ التي منها تَعْرِض. وإنَّه لَمَرامٌ صعْبٌ ومطْلَبٌ عسير، ولولا أَنه على ذلك، لما وجَدْت الناسَ بين مُنْكِرٍ له من أصله، ومتحيِّل له على غيرِ وَجْههِ، ومعتقِدٍ أَنه بابٌ لا تقوى عليه العبارة، ولا يملك فيه إلاَّ الإِشارةَ، وأنَّ طريقَ التعليم إليه مسدُودٌ، وبابَ التفهيم دَونَه مغْلقٌ، وأنَّ معانيَك فيه مَعانٍ تَأبى أنْ تَبْرُز مِن الضَّمير، وأنْ تَدِينَ للتبيينِ والتَّصوير، وأن تُرى سافرةً لا نِقابَ عليها، وبادية لا حِجابَ دونها، وأن ليسَ للواصِفِ لها إلاَّ أن يُلَوِّح ويُشيرَ، أَوْ يَضربَ مثَلاً يُنْبئُ عن حُسْنٍ قد عرَفَه على الجُملة، وفضيلةٍ قد أَحسَّها، من غيرِ أنْ يُتْبعَ ذلك بَياناً، ويُقيمَ عليه بُرهاناً، ويَذكُرَ له عِلَّةً، ويُورِدَ فيه حَجَّة.»


الكتابة، مثل الكلام، ليست حكراً على أحد، نستخدمها يومياً، نتبادل الرسائل، ننشر البوستات على الشبكات الاجتماعية، نشتبك في التعليقات، أو نكتب أخباراً وقصصاً صحافية، وإذا دبّت فينا الحماسة قد نكتب رواية أو تأملات في الفلسفة أو ربما نكتب الشعر.
ورغم اختلاف هذه الاستخدامات فإنها جميعاً تنطوي على حقيقة واحدة، وهي أن الكتابة عملية تواصل، فالكلمات يتم ترتيبها لأداء غرض معين، واعتماداً على مدى جودة هذا الترتيب، تؤدي الكتابة غرضها أو لا.
الكتابة، مثل الكلام أيضاً، باستخدامها اللغة أداة لها، ترتبط بالتفكير، وبالتالي بهوية الشخص نفسه؛ إذ يُقال: «قل لي فيما تفكر، أقل لك من أنت»، حتى إننا نعتبر وضوح الكتابة شهادة على التفكير الواضح لدى الكاتب.
لا يعني هذا بأي حال أن الكتابة حِكرٌ على صاحب الفكر. على العكس تماماً؛ فبالاهتمام باللغة، واستيعاب تقنيات التعبير، ستتمكن ليس فقط من إجادة صياغة الجملة، بل عملية التفكير ستتحسن لديك أيضاً.
الكتابة لا تأتي بعد التفكير. بل يحدث التفكير، بجانب منه، في فعل الكتابة ذاته. فنحن نكتب لنتعرّف على ما نفكر فيه؛ لشحذ مفاهيمنا؛ لاستكشاف شكلها ومدى دقتها. أي أننا نفكر في أثناء البحث عن الكلمات، بقبول بعضها ورفض الآخر.
وفكرتنا لا تكتمل إلا بعد صياغتها في لغة قابلة لنقلها إلى الآخرين. لذا، الكتابة الجيدة تمنح المتعةَ للقارئ بينما تقوم بأداء غرضها.
والمتعة التي تنتجها الكتابة تكمن أساساً في إحداث «الفهم» في أذهان الآخرين.

لماذا إحداث «الفهم» مهم
سواء أكنت كاتباً، أو باحثاً، أو صحافياً، فإن «إفهام» الآخر هو الغاية النهائية من عملك. وطريقك إلى ذلك هو «الوضوح» أو إزالة اللَّبس.
وذلك يتطلب التمرين؛ يتطلب اهتماماً باللغة؛ لا أقصد بذلك القواعد والنحو.
«الوضوح» له أدوات لغوية أخرى لم يتناولها النحاة الذين دأبوا في درسهم على إعانة المتلقي على صحة تلاوة القرآن لا على تدبُّر معانيه، إذْ تركوا هذه المهمة للمتكلّمين والمتأدبين والبلاغيين.
كان «الجرجاني» على وشك أن يوجه اللغة العربية وجهة مختلفة تماماً لولا أن دارسيه ظنّوا خطأ أنه يتحدث عن علم جديد في البلاغة لا اللغة، فسمّوه «علم المعاني»؛ ثم فصلوه عن آليات بناء الجملة. بذلك أغفلوا جوانب معنوية مهمة في بناء الجملة، كالتقديم والتأخير، والفَصْل والوَصْل، والإيجاز والإطناب والمساواة إلخ، وأدخلوها في إطار «العلم المستجد»؛ «علم المعاني».
والحق، لم يكن العلم المستجد إلّا الجانب المعنوي من علم النحو.
الجرجاني درس دور «المتكلم» في بناء الجملة. وجعل «المعنى»، وليس «المبنى» نقطة انطلاق بناء الجملة. ببناء «المعنى» لغوياً يحْدَث «الفهم» في أذهان الآخرين.
هذا ما أنا عازم على تعريفك به في هذه المدونة.




ماذا ستجد في المدونة؟
في هذه المدونة، أحاول أن أساعد ألاّ تكتفي بصياغة أفضل الجمل، بل كيف ترتب الكلمات داخلها أفضل ترتيب، و تطوير مهارة الكتابة لديك. فنَظْم الكلام وترتيب الكلمات، كما يقول الجرجاني، أشبه بنظم اللؤلؤ والجواهر في سمط نفيس.

01
مسار تعليمي بعنوان «أدوات كتابة القصة» في أربع خطوات:
1. نصائح عامة. 2. تحرير المضمون. 3. تحرير الجملة. 4. تحرير النص.

مقالات تتناول جوانب دقيقة في علاقة الجمل مع بعضها، وعلاقات المفردات مع بعضها، وآليات التفاعل بينها، بما يساعد في إحداث «الفهم» عن طريق الكتابة الواضحة والحسنة.

مقالات تتناول التحديات المختلفة التي يواجهها الصحافي، وبعض المفاهيم الدقيقة حول الكتابة الصحافية وبناء القصة السردية.

04
هنا، أحاول أن أتناول آليات بناء الجملة العربية بما يحقق الوضوح والحسن.

مقالات تتناول الجوانب المعرفية للكتابة وعلاقتها مع الإنسان نفسياً وبيولوجياً بما يضفي بعداً ثالثاً لعملية الكتابة ككل.