كيف تصف سرّاً؟
- رشاد عبد القادر

- 5 نوفمبر
- 3 دقيقة قراءة
تاريخ التحديث: 11 نوفمبر


الصحافة جعلت «الأسرار» تبدو وكأنها ثرثرة تافهة:
عشر دراسات تخبرنا بالسر
كتمان الأسرار.. الدراسات تحثك على البوح بها
لماذا لا ينبغي أن نجبر أطفالنا على إخفاء الأسرار؟
"سر الأسرار"..
إليك الأسرار العلمية التي فشل العلماء في حلها!
لكن بعض الأسرار أخطر من ذلك بكثير.
في هذا المقطع:
أسرارٌ، صامتةٌ، صَلدَةٌ، سكنت صروحَ قلبَينا المُظلِمَين، أسرارٌ سئِمَت طُغْيَانَها؛ طغاةٌ تَوّاقون إلى الخَلع.
Secrets, silent, stony, sit in the dark palaces of both our hearts: secrets weary of their tyranny: tyrants, willing to be dethroned.
يعيد جيمس جويس «المجد» الذي كان إلى الأسرار. جويس لا يتحدث في روايته «يوليسيس» عن أسرار عادية كالتي قد تختلقها عن مديرك وأنت تثرثر مع زميلك في أثناء شرب القهوة، أو تدخين سيجارة. جويس يتحدث هنا عن الأسرار المظلمة؛ الأسرار التي تدمر العلاقات وتباعد ما بين البشر، أسرار كالخيانة، والإدمان، والأكاذيب المنسوجة بعناية. ومع أن الكشف عن هذه الأسرار يُعد رعباً، إلا أن حملها قد يكون أكبر عبئاً.
إنها تُفسد الروح، وتنهش أصحابها مثل خلايا السرطان التي تنتشر.
قد نظن أن هذه الأسرار الثقيلة تحمينا، لكنها في واقع الأمر تسجننا. يصف جويس هذه الأسرار بأنها طاغٍ مستبد، وتجعل قلوب أصحابها مظلمة، صلدة، متحجرة. لكن هذه الأسرار نفسها تتوق إلى التمرد. تريد أن تنهض وتخلع نفسها عن العرش، لتتحرّر من استبدادها.
في هذا الوصف الآخاذ، يكشف جويس مفارقة الأسرار المظلمة، إنها لعبة شد الحبل بين رغبة الأنا في إخفائها وحاجة الروح إلى التعبير عنها.
فالأسرار الصامتة الصلدة التي «سكنت صروح قلب المظلم» ستيفن ديدالوس ليست أسرار الآخرين، بل أسراره هو، ذنب لم يُغفر، واعتراف لم يُقَل. ستيفن يعيش في صمتٍ خانقٍ منذ أن رفض الصلاة عند فراش أمّه وهي تموت، وهي اللحظة التي تشقّ روحه منذ رواية جويس الأولى «صورة الفنان في شبابه»، وتعود تطارده هنا في رواية «يوليسيس» بعد أن كبر بضع سنوات..ذلك الرفض — فعل الكبرياء والتمرّد — جعله يحمل في قلبه حجراً من الذنب، لا يبوح به لأحد، ولا يستطيع تحطيمه.
يتحوّل هذا الحجر إلى ما يسميه جويس «الطاغية الساكن في الصرح المظلم»، أي الأنا المتكلّسة التي تمنعه من الاعتراف أو المصالحة.
وهكذا يصبح «الصرح المظلم» استعارة مزدوجة:
هو عقله المثقّف المتعالي الذي حوّل الإيمان إلى فكرٍ بارد.
وهو أيضاً سجنه الداخلي، حيث الأسرار تتوق إلى أن تُخلع، كما يتوق هو إلى الخلاص، لكنه عاجز عن النطق.
من هنا، فإن حديث جويس عن الأسرار ليس أخلاقياً فقط، بل روحي/اعترافيّ: الإنسان يحمل في داخله طاغيةً يرهقه، والطاغية في قلب ستيفن هو كبرياؤه وذنبُه، كأن جويس يلمّح إلى أن طريق التحرّر يبدأ من الاعتراف، لا من الصمت.
وهكذا، فإن المقطع لا يصف مجرد مفارقة بين الكتمان والبوح، بل رحلة الاعتراف المؤجَّل التي تشكّل جوهر مأساة ستيفن طوال الرواية.
في جملة جويس الأصلية:
Secrets, silent, stony, sit...
يتكرّر صوت الـ S الهامس، فيُحدث إيقاعاً يشبه الهمس السري أو التنفّس المقطوع. إنه صوت الزفير الذي يسبق الاعتراف، والوشوشة التي ترافق الإثم. هذا التكرار الصوتي ليس صدفة؛ إنه صدى نفسي لحالة الكتمان، حيث تتحوّل الحروف إلى أنفاسٍ متردّدةٍ بين البوح والصمت.
وعند نقل هذا الإيقاع إلى العربية، استخدمت حرفَي السين (س) والصاد (ص) بوصفهما أقرب ما يكون إلى هذا الهمس الإنكليزي، لكنهما يحملان في الوقت نفسه دفئاً شرقياً ووقعاً أعمق.
أسرار، ساكنة، صلدة، سكنت صروح قلبينا المظلمين...
أسرار سئمت...
تكرار الأصوات س، ص، س، ص يخلق موسيقى خفيّة تمزج بين النعومة والصلابة؛ فالسين تُهمس كالنَّفَس، والصاد تُطرق كالحجر. وهكذا تُعيد العربية إنتاج التوتّر نفسه الذي في الأصل: صوت يوشك أن يعترف، لكنه يتجمّد في لحظة الخوف.
إنها موسيقى تُجسّد المعنى نفسه الذي يتحدّث عنه جويس:
الصراع بين الرغبة في الإفصاح، والخوف الذي يُحوّل القلب إلى صخرٍ صامت.
وثمة أداة للكتابة، هي: الاحتكاك
عندما تتصادم الكلمات مع بعضها وتحتك، توّلد المعنى.






