كيف تقنع شخصاً آخر؟
- رشاد عبد القادر

- 5 نوفمبر
- 2 دقيقة قراءة
تاريخ التحديث: 11 نوفمبر


هذا ليس مجرّد درسٍ في الكتابة، بل درسٌ في كيفية تغيير قناعات شخصٍ ما.
حين تحاول انتقاد أحدهم، قد تميل إلى الهجوم الكامل لتفرض وجهة نظرك، لكن ما يحدث في هذا المقطع هو النقيض تماماً.
أنتَ عبقريٌّ يا «ويل». لا أحد يُنكر ذلك. لا أحد يستطيع أن يسبر أغوارك حقّاً. لكن أتظنّ أنك تعرف كلَّ شيءٍ عني لأنك رأيت لوحةً رسمتُها؟ لقد مزّقتَ حياتي اللعينة إرباً. أنتَ يتيم، أليس كذلك؟ أتعتقد أنني سأفهم شيئاً عن قسوة حياتك — عن مشاعرك، عن حقيقتك — لمجرّد أنني قرأت رواية «أوليفر تويست»؟ هل يختزل ذلك كيانك؟
You’re a genius, Will. No one denies that. No one could possibly understand the depths of you. But you presume to know everything about me because you saw a painting of mine? You ripped my fucking life apart. You’re an orphan, right? Do you think I’d know the first thing about how hard your life has been — how you feel, who you are — because I read Oliver Twist? Does that encapsulate you?
في مشهدٍ من فيلم «غود ويل هانتنغ» (1997)، يقف الطبيب النفسي «شون» — الذي يؤدي دوره روبن ويليامز — أمام الشاب العبقري «ويل هانتنغ» — الذي يؤديه مات ديمون.«ويل» شابٌّ لامع في الرياضيات ويعمل كعامل نظافة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، لكنه يعيش حياةً مضطربةً بسبب طفولةٍ قاسيةٍ في دور الرعاية والعنف الذي تعرّض له. لا يثق بأحد، ويهاجم كلَّ من يحاول الاقتراب منه. يكتشف أحد الأساتذة موهبته الفذّة، ويحاول مساعدته عبر جلسات علاجٍ نفسيٍّ مع الدكتور «شون ماغواير».
في هذا المشهد المحوري، وبعد أن رأى «ويل» لوحةً في مكتب «شون»، يستخدمها لتشريح حياة الطبيب الشخصية بقسوة، ظانّاً أن لوحةً واحدةً تكشف كلَّ شيءٍ عن الرجل. لا يردّ «شون» على وقاحة «ويل» بالغضب، بل يختار أن يخاطبه بالأسئلة البلاغية التي تفتح قلبه دون أن تجرحه.
شخصية روبن ويليامز لا تستخدم أيّ جملةٍ تقريريةٍ في نقدها، بل تكتفي بالأسئلة البلاغية — وهي وحدها كافية لتخاطب قلب «ويل».يبدأ حديثه بترسيخ الاحترام. كلماته دافئة لكنها حازمة، وعندما ينادي «ويل» بالعبقري، لا يقولها مجاملةً، بل عن صدقٍ وإيمان. هذه الأصالة تُسقِط دفاعات «ويل» النفسية، فتمنح روبن ويليامز المساحة (والأوكسجين) ليقدّم نقطةً أكثر صرامةً.
تلك الأسئلة البلاغية تُكرّم ذكاء «ويل» — بل وتحوّله ضده. كلُّ سؤالٍ منها يطرق باب عالمه الداخلي:
الأول يستحضر التوتّر في آخر لقاءٍ بينهما (أتظنّ أنك تعرف كلَّ شيءٍ عني لأنك رأيت لوحةً رسمتُها؟)
الثاني يلمس جرحه العميق (أنتَ يتيم، أليس كذلك؟)
الثالث يتحدّى هويته (أتعتقد أنني سأفهم شيئاً عن قسوة حياتك — عن مشاعرك، عن حقيقتك — لمجرّد أنني قرأت رواية «أوليفر تويست»؟)
أما الرابع فيوجّه الضربة القاضية: (هل يختزل ذلك كيانك؟)
البنية بسيطة: ابدأ بالاحترام، ثم اطرح بضع أسئلةٍ حادّةٍ. لن تحتاج إلى كثيرٍ من الكلام. لقد نجح هذا الأسلوب في «غود ويل هانتنغ»؛ لأنه ينجح في الحياة الواقعية أيضاً.
لم يكن «غود ويل هانتنغ» مجرّد فيلمٍ ناجحٍ؛ لقد كان ظاهرةً إنسانيةً وفنيةً. أخرجه غاس فان سانت، وكتب نصَّه شابّان غير معروفين آنذاك: مات ديمون وبن أفليك — وهو السيناريو الذي فتح لهما أبواب هوليوود ومنحهما جائزة الأوسكار لأفضل سيناريو أصلي. حصد الفيلم تسعَ ترشيحاتٍ للأوسكار، وفاز منها بجائزتين: أفضل سيناريو أصلي، وأفضل ممثل مساعد لروبن ويليامز، الذي خلّد دوره كمعالجٍ إنسانيٍّ يمزج الحكمة بالحنان والألم.
أثرُ الفيلم تجاوز شباك التذاكر؛ فقد صار مرجعاً في الحوارات السينمائية حول الذكاء، والجرح العاطفي، ومعنى التعلّم، والثقة التي يحتاجها الإنسان ليشفى. إنه يذكّرنا بأن العبقرية بلا محبّةٍ تبقى سجناً، وأن أعمق التغييرات لا تصنعها الخطابات الطويلة، بل اللحظات الصادقة والأسئلة التي توقظ القلب.






