top of page

عاد هذا الصباح أيضاً من عند طبيب القلبية بأنباء غير سارة. لقد فقد قلبُه الإيقاع. القلب يعمل عادة بتواتر منتظم؛ تنقبض حجرتا الأُذين، ثم حجرتا البطين، في تتابع نادراً ما يشعر به الإنسان. عندما يحدث خلل في هذه التناغم، فإنه يحوّل الحياة اليومية إلى قطعة جحيم. لسببٍ ما، لا يعرف الأطباء كيف بدأ البطين لديه في الانقباض قبل أوانه، فيحدِث انتفاضة تهزّ كامل الجسم. ليس مرة واحدة في اليوم أو اثنتين أو حتى عشراً، بل 14,000 مرّة، وكأن جَرْوين صغيرين يتقاتلان باستمرار داخل صدره؛ يخضّانه، يرجّانه، وينفضانه من دون رحمة.

 

بدأ الأمر كله قبل 15 سنة. في ليلة عادية، بينما كان يحاول النوم بعد يوم عمل مرهق وضاغط، بدأ قلبه ينتفض. سبق له أن عايش هذه الحالة. كانت تدوم من ثوان إلى بضع دقائق ثم تتبدد. لكن ضربات القلب هذه المرة بدت مختلفة، فهي أقوى وأعنف، وتأبى أن تتوقف. ما يزيد الأمر سوءاً، هو الاستجابة الغبية للدماغ عندما يستنفر ظناً منه أن الموت بات وشيكاً، فيرسل إشارات إلى الجهاز العصبي الودّي -الذي يتعاطف مع احتياجات الجسم- لتنشيط الغدة الكظرية، فتفرز هرمون الأدرينالين، ما يسبب بدوره تسارعاً أكبر في النبضات. لحسن الحظ أن القلب مبرمج آلياً بفضل الجهاز العصبي الـ «لا ودّي»، هذه المرّة، على ضبط تسارع النبضات إلى حد أقصى معين، لولا ذلك لأصاب الدماغُ بحماقته القلبَ بعَطَب دائم. في ذلك اليوم، أمضى ثلاث ليالٍ في العناية المركزة.

 

وإذا كانت الناس لا تنتبه عادة لوجود قلب في قفص الصدر؛ فإن كل خضّة كانت تذكّره بأن خيط الحياة رفيع، وما أسهل انقطاعه. قلبه الذي ينتفض عندما يفرح، وينتفض عندما يحزن، ينتفض عندما يضحك، وينتفض عندما يبكي، ينتفض عندما يجوع، وينتفض عندما يشبع، ينتفض عندما يركض، وينتفض عندما يستريح؛ كأنه ظلٌّ يذكّره بأن لحظة واحدة كافية لإنهاء كل شيء.

 

عندما وصل إلى المنزل، وجد الكلب ينتظره عند الباب. كان «ليو» يهز ذيله دائرياً في الاتجاهات جميعها، يتلوّى يميناً وشمالاً، فالساعة قد قاربت الحادية عشرة، وبات من حقه الآن تناول الإفطار والخروج في المشوار الصباحي الذي تأخر. من حسن حظ الكلاب أنها لا تأبه للأمراض مثلما يفعل البشر.

 

وضع حقيبة الظهر على الكرسي المجنّح، المخملي الأخضر الداكن، دون اكتراث. لم يستخدم قطّ هذا الكرسي المهيب للجلوس. يودّ التخلص منه، مع أنه من الطراز نفسه الذي استخدمته الملكة البريطانية آن ستيوارت. وكان كرسي ونستون تشرشل المفضل وهو يخطط لمعركته التالية مع أدولف هتلر. تشارلز ديكنز أيضاً كتب معظم رواياته على كرسي مشابه. وجلس عليه سيغموند فرويد أثناء استماعه لمرضاه خلال جلسات العلاج الطويلة؛ كان يحتاج إلى كرسي مريح كي يعيد بناء السرد الذي فقده المريض. 

 

اشتدّ الخفقان، فجلس على الأريكة المقابلة يحاول التقاط أنفاسه. لم يستطع إزاحة الفكرة عن ذهنه: أهو أيضاً فقد السرد؟ الآلام والاضطرابات النفسية، عند فرويد، عَرَضٌ لانسداد في تاريخ المريض غير القادر على متابعة قصته. والخطوة الأولى على طريق الشفاء هي تحرير هذا الانسداد. عندما يبدأ المريض بسرد قصته بحرية، عندما يضع مخاوفه المسكوت عنها، في كلمات؛ في لغة، عندما يروي حياته في مشاهد غير مترابطة؛ انسدادات متفرقة في «سرد» مشوّه، يأتي التحليل النفسي، ويجمع المعلومات المتضاربة، يزنها ويرتبها داخل قصة قابلة للفهم؛ فيستعيد المريض حياته في سرد متماسك يجرف معه؛ وكأنه نهر، الآلام إلى المكبّ. آهٍ لو أن أحداً ما؛ شخصاً ما مثل فرويد، يأتي من حيث لا يعلم، ويعيد ترتيب مشاهد حياته التي خرجت عن الطريق، مثلما فعل قلبه، يضع كل ذكرى ضالّة؛ كل خوف عالق في مكانها الصحيح. يأتي ويزيل البؤر التي تمنع الحياة من التـدفق.

الوصول إلى المنزل

المشهد كما تخيله الذكاء الاصطناعي

صورة تعبيرية تجريدية

فقدَ السرد،
ففَقد قلبه الإيقاع

السعادة ليست حدثاً لحظياً؛ ليست صورة على إنستغرام أو مقطع فيديو على «تيك توك»، السعادة لها ذيل طويل يمتد إلى الماضي. إنها مثل الشَّفَق؛ تلك الحُمْرة التي تُرى في الأفق بُعَيْد المغيب.

فقدَ السرد،
ففَقد قلبه الإيقاع

المجتمع الذي كان من دون تواصل حلّ محله تواصل من دون مجتمع..

فقدَ السرد،
ففَقد قلبه الإيقاع

المجتمع الذي كان من دون تواصل حلّ محله تواصل من دون مجتمع..

26.08.2024

النص قصة واقعية بسرد أدبي فلسفي، أعاد ترتيب الأحداث وصاغها بما لا يؤثر على معناها العام. وما كان ممكناً كتابته، لولا أعمال بايونغ-شول هان، لا سيما The Crisis of Narration، و The Palliative Society، والتر بنيامين The Storyteller، حنة آرنت The Human Condition، إضافة إلى أسماء أخرى وردت في سياقاتها.

أفرغَ علبة كبيرة من اللحم والجزر والنودلز مع الحساء في صحن، وفي صحن آخر سكب الماء. كان «ليو» يدور حول نفسه ويقفز فرحاً بالوجبة الدسمة. الكلاب لا تستلذّ الطعام؛ ولا تستمتع به، إنها تلتهمه. لو كان بيدها لجعلته في لقمة واحدة. بضع مئات السنين، ربما الآلاف، من وفرة الغذاء، لم تكن كافية لتحييد غريزتها البدائية؛ غريزة البقاء على قيد الحياة. إنها لا تزال تفعل فعلها، وتدفعها إلى التهام أكبر قدر من الطعام في أقرب وقتٍ ممكنٍ. فالوجبة التالية قد لا تكون متوفرة، مع أن الرفّ مليء بها؛ علب فوق علب فوق علب.

 

علاقته مع الكلب المالطي الصغير ليست على ما يرام. أهداه إلى ابنته الكبرى في عيد ميلادها الثالث عشر بعد أخذٍ وردٍّ طويلين. منذ ذلك الحين، تستمتع برفقته من دون أن تتحمل مسؤولية أعبائه. الآباء هم هكذا يحملون الأسى دائماً. يخرج «ليو» ثلاث مرات في اليوم في مواعيد محددة، لا تأبه لطقس برلين المتقلب، لا للمطر، لا للريح أو الثلج. شعره الأبيض الناصع الحريري الطويل يحتاج إلى عناية مستمرة؛ حمّام أسبوعي، وقصّ كل شهرين أو ثلاثة على الأكثر. وفوق كل ذلك، إنه كلب مشاكس بشخصية قيادية. يعدّ إناث كلاب الحي تابعاتٍ، وويل للذكور، مهما كبرت أحجامهم، إن اقتربوا من إحداهن في حضوره. يهجم بشراسة أسد مع أنه مخصيّ.

 

وبينما كان يراقب «ليو»، وهو يلتهم وجبته بالغريزة التي لا تعرف عاطفة، تأمّل علاقتهما وكيف أن الظروف جعلت مصائرهما تتشابك. لم يكن الحب أو الكره ما يجمعهما، بل صفقة لتلبية احتياجاته اليومية. هو نفسه عالقٌ الآن مع الحياة في صفقة؛ تقوده الالتزامات لا العواطف. علاقة من دون «قصة»؛ عرضية وطارئة، قيمتها لا تتعدى اللحظة التي تكون فيها.

 

أنهى «ليو» تناول وجبته، ونظر إليه بامتنان، مع ابتسامة - نعم، الكلاب تبتسم - ثم اندفع نحو الباب متململاً، مضطرباً. هو أيضاً مضت حياته مضطربة؛ بحث عن السلام باستمرار، ولم يجده أبداً. وضع الكلب في المقود، وانطلق به في المشوار الصباحي المتأخر، متبعاً المسار الذي يسلكه كل يوم، ليس من باب الاختيار، بل انطلاقاً من تواطؤ ضمني بينه وبين «ليو»؛ فالمسارات الجديدة تحمل معها روائح كلاب جديدة وأعداءً محتملين وأخطاراً كامنة، لذلك كان من الأفضل الالتزام بما يمكن التنبؤ به. لقد عاش حياته على الحافة؛ تملّكه الشغف في انتظار ما سيحدث تالياً، مدفوعاً بضخ الأدرينالين في العروق. ربما كان هذا الضخ المستمر السببَ في مشكلة اضطرابات نُظم القلب. لم يتسن له يوماً التحدث بعمق مع الطبيب.

التنزه مع ليو

المشهد كما تخيله الذكاء الاصطناعي

علّقوا بصدره جهازاً يسمى «هولتر مونيتور»، للمراقبة وتسجيل عدم الانتظام على مدار 48 ساعة. الجهاز يجمع كمّاً هائلاً من البيانات عن القلب؛ كيف يعمل في أثناء الراحة، والنوم، والعمل، والمشي، والركض، والأكل، والتسوق، حتى أثناء ممارسة الجنس. بياناتٌ وبيانات، ثم يمضي الطبيب مع المريض دقيقتين أو ثلاثاً لا أكثر. إنه مجرد رقم؛ المريض السابع في هذا اليوم، العاشر، أو ربما الثامن عشر. قال له: «سننتظر أشهراً أخرى، ونضع الجهاز مجدداً. إن لم يكن النظم قد تحسّن، علينا عزل البؤر المنتبذة التي تتسبب في اضطراب القلب، بالكيّ عن طريق القسطرة.»

 

القلب، منذ الزمن الأول، تتحكم فيه عقدتان: عقدة جيبية أذينية، وعقدة أذينية بطينية، تنظمان حركته بإرسال إشارات كهربائية بتواتر زمني معين. تحدث المشكلة، عندما تبدأ بؤر مُنْتَبذَة بعضلة القلب؛ بؤر شاذة، بإرسال إشارات كهربائية مشوِّشة فيحدث الاضطراب، ويفقد القلب إيقاعه وتوازنه. كان مقتنعاً أن «الحياة عندما تفقد توازنها، تُفْقِد القلب إيقاعه.»

 

«ليو» كان سعيداً بالمشوار الذي كاد أن يفقد الأمل فيه. يركض ويقفز، يشمّ هنا وهناك. تجذبه رائحة البول أكثر من أي شيء آخر. إنها البصمة التي تميزه. من رائحة البول، يستطيع أن يعرف الجنس، العمر، الأمراض، يستطيع أن يعرف ماذا أكل، وحالة المزاج؛ ما إذا كان هائجاً، أو مسعوراً، أو ما إذا كانت كلبة شبقة مستعدة للتزاوج. تذكّر صديقته التي قالت له يوماً وقد أغمضت عينيها ودفعت بأنفها وفمها إلى الأمام قليلاً كأنها تستحضره: «لن أنسى رائحة ما بين فخذيك،» ابتسم لفكرة أن تخيّله كان أقوى من حضوره.

 

طوال حياته لم يعرف لماذا وقعت هؤلاء الفتيات في حبه. لم يكن وسيماً. وجه بيضوي بفكين عريضين، جبهة ضيقة توّسعت -بقدرة قادر- مع تقدمه في العمر، وعينان صغيرتان حادتان فوقهما حاجبان مقوسان كثيفان، وأنف بارز بأرنبة نازلة، شفتان رقيقتان بهما سمرة، تميل زاويتهما إلى الأسفل عند الابتسام. حتى ابتسامته كانت تدلّ على حزنه هذا إذا تغاضيتَ عن جسمه النحيل وظهره المنحني. الشيء اللافت فيه، هو صفاء بشرته. إنها مشرقة، ربما بفعل التعرق الدائم؛ فجسمه آلة ضخّ للعرق. إنه من تلك الشخصيات التي إذا تعرّفتَ عليها، لا تستطيع أن تكون محايداً تجاهها؛ فإما أن تحبها أو تكرهها. شخصية لديها هالة.

 

لم يبادر قطّ إلى الاعتراف بحبه لأي فتاة. كان يفضل أن يبني معهن أولاً قصة؛ سرداً. يختلق الأحداث، يحبكها ثم يدفعها بصبرٍ وجَلَد، إلى أن تصل إلى لحظة الذروة. لم تنجح الخطة دائماً، لكن عندما تفعل، يأتين إليه معترفات، راغبات.

صورة تجريدية لبطل القصة

الشخصية كما تخيلها الذكاء الاصطناعي

لاحت من بعيد كنيسة «الأمل» الإنجيلية. يمرُّ بها يومياً ثلاث مرات في طريق عودته من مشاوير «ليو» الذي لا يحبه ولا يكرهه. لا ذنب للكلب في ذلك. لقد فقدَ القدرة على الحب منذ زمن بعيد. تذكّر أبياتاً للشاعر شارل بودلير الذي أسهم في انتشار قصيدة النثر:

تعرف، يا صديقي، كم أرتعب من الخيل والعربات. قبل قليل، وأنا أعبر البولفار على جَناح السُّرعة، خائضاً في الوحل خلال هذه الفوضى غير المُستتبة، حيث الموت يراودك من كل جانب، انزلقت من رأسي هالتي، إثر حركة مفاجئة، في وحل الشوارع المعبّدة. لم تكن لي شجاعة التقاطها. وجدتُ أن فقدان علامة مَجدي أقل هوناً من أن تتكسر عظامي. ثم، قلت بيني وبين نفسي: ربّ شرٍّ نجمَ عنهُ خيرٌ. الآن أستطيع أن أتجول خفيةً؛ وأرتكب أعمالاً خسيسة؛ أن أنغمس كسائر الفانين البسطاء، في الخلاعة والفسق. وها أنا الآن، كما ترى، مثلك بالضبط.

كان يكرر في ذهنه هذا الشطر: «انزلقت من رأسي هالتي»، عندما توقف «ليو» ليشمّ «ميمي»؛ الكلبة البيضاء مثله، لكن بجسم أكثر امتلاء وثقة. إنه يعرفها منذ سنوات، مع ذلك يحاول أن يشمها من مكمنها في كل مرة، ليتعرف على البصمة، ويقطع الشك بالقين بأنها هي لا أحد غيرها. «ميمي» أبَت ذلك وابتعدت. سابقاً، كانا يتراقصان، ويلعبان ويقفزان هنا وهناك. الطبيب البيطري قال له إن «ليو» يتعذّب، وينبغي إخصاؤه قبل أن يصبح عدوانياً. كان متردداً. أرادَ أن يجرّب «ليو» الجنس، ولو لمرة واحدة كي يحتفظ على الأقل بالذكرى الممتعة. لكن الطبيب حذّره وأجرى العملية. حاول «ليو» أن يشمّ مجدداً، لكن «ميمي» ابتعدت عنه ومضت في سبيلها. يبدو أنه لم يعد مثيراً للاهتمام بما فيه الكفاية. لم يكترث «ليو» لذلك، تابع هو أيضاً طريقه يشمّ ويختار بعناية البقع التي يتبوّل عليها، ناقلاً رسائله، وحالته، ومزاجه، وربما ما يشبه صورة ثلاثية الأبعاد للوجبة التي تناولها قبل قليل؛ تماماً كما نفعل نحن البشر على الشبكات الاجتماعية. الفرق أن الكلاب تتواصل وتروي قصصها وتُظهر حالاتها عن طريق الطبيعة ومن خلالها، بينما نحن البشر، أقصينا القصص، وقتلنا السرد واحتمالاته، ثم اخترعنا وسائط رقمية وقررنا أنها -من الآن فصاعداً- أفضل وسيلة للتواصل.

 

نادراً ما يستخدم الشبكات الاجتماعية، فهي مكان مليء بالصراخ. وانعزل عن الناس منذ سنوات، إذ قليلاً ما يجد مساحة حديث مشتركة. لم يكن هذا حاله دائماً. في طفولته عاش في قرية صغيرة، أقصى شمال شرق سوريا، على سهول جبال «طور عبدين» المهيبة، التي تمتد عبر مساحة شاسعة من تركيا وعبر الحدود إلى داخل سوريا. مرّ فيها الإسكندر الأكبر بجيشه ذي الـ50 ألفاً في طريقه إلى مواجهة داريوس بجيشه البالغ 250 ألفاً في معركة «غوغاميلا» التي ستُسجل في التاريخ على أنها أعظم انتصارات الإسكندر. وظلت الإمبراطوريات الفارسية والرومانية تتناطح في هذه المنطقة على مدار مئات السنين. مرّ فيها تيمورلنك بعد أن دمّر بغداد في طريقه إلى أنقرة. وقبل هؤلاء جميعاً بآلاف السنين، قامت مدن في تل حلف وتل عربيد وشاغربازار، وتل براك، وأوركيش، ازدهرت، وتوسعت ثم اندثرت؛ لا تكاد تزيح صخرة في هذه المنطقة إلا وتجد أسفلها قصة. أمطار الربيع وفيضانات الأنهار كانت كفيلة بدفع العملات والأختام الصغيرة الأثرية؛ القصص المدفونة، إلى سطح أرض ذات تربة حمراء، حيث تنتعش نباتات وحشرات وحيوانات، وقبل كل شيء هناك ينتعش الإنسان.

 

لم يكن في القرية صخب. كان الناس يستمعون أكثر مما يتحدثون. في صدر القرية التي تواجه جميع بيوتها الجنوب، جهة الشمس، وعلى مبعدة منها، تنتصب مضافة من الطوب الطيني بدرج كبير يرتفع عن الأرض نحو مترين، يفضي إلى غرفة واحدة عظيمة بطول 20 متراً على الأقل، وعرض 10 أمتار، وارتفاع 5 أمتار، ربما أكثر. إنها درّة تاج القرية. وبمجرد صعود الدرج والدخول من الباب الخشبي الكبير، يعلم الداخل أنه هنا للاستماع؛ للإنصات، لا للتحدث. فالمضافة تستقبل أولئك القادمين من البعيد، الذين ألمّت بهم مصيبة، ويبتغون لها حلّاً، وآخرين أثاروا مشكلة، أو تعرّضوا لها، ويبحثون عن مخرج، والدخلاء الذين اكتووا بنار العشق، ولم يجدوا طريقاً سوى خطف المحبوبة بعد رفض أهلها الزواج، والباحثين عن لقمة العيش، وعابري سبيل، والقصاصين، والشعراء، والمغنين، وحتى الراقصات. «كان عالماً سحرياً، بقصص لا تخضع لمنطق»، قالها بروّية وبصوت مسموع.

 

حتى رغباته الجنسية في المراهقة المبكرة، لم يكن يحتاج إلى شرحها. كان يكفي أن يختلي صدفة بفتاة في أحد الممرات الزراعية الضيقة التي تفضي إلى القرية المشرفة على خمسة تلال واسعة ووديان أربعة يجري في أحدها نهر، ثم يحدث ما يحدث في صمت، ولا بأس ببعض التنهيدات. لم يكن يحتاج إلى أن يبادرها بالحديث، أو أن تبادره هي. لم يكن يحتاج إلى الإقناع، أو التمهيد. لم تكن بحاجة إلى ذلك. لم يكن بحاجة إلى نشر حكمة بليغة، أو قصيدة حب، أو أن يستعرض عضلاته على فيسبوك. لم يكن بحاجة إلى متابعة حسابها على إنستغرام وإغراقها بالإعجابات، أو ذاك السمايلي الأصفر المتكلّف يحتضن قلباً أحمر. هي أيضاً، لم تكن بحاجة إلى سِلْفي وهي تزمّ شفتيها، وتذبل عينيها، وترفع عجيزتها إلى الخلف قليلاً. ولم تكن بحاجة أن تنطّ بحركة مفاجئة أمام كاميرا «تيك توك» كي يهتز نهداها. لم يكن يحتاج إلى كل ذلك. كانا يعلمان أن الأقدار قد قادتهما إلى هذه الصدفة، وليس عليهما إلا الاستسلام لسلطان اللحظة. تفتّقت فجأة في ذهنه المشوّش، ما قاله الكاتب المجري بيتر ناداش «الحياة هنا لا تقوم على التجارب الشخصية، بل على ذاك الالتزام العميق بالصمت.» نعم، لم يكونا يحتاجان إلى الحديث.

 

كان السرد جزءاً أساسياً وامتداداً عضوياً لحياة الناس. كانوا يعيشون داخله، لا يعلمون بوجوده، تماماً مثلما نعيش نحن داخل مجرّة درب التبانة، ولا نستطيع إلّا أن نتخيل شكلها؛ لأنه لا يمكن رؤيتها كما نرى المجرات الأخرى. حتى «ليو» الذي واصل طريقه بعد أن ابتعدت عنه «ميمي»، يعيش من خلال السرد – الغريزة؛ فالتواصل عبر بقع البول يفتح له الاحتمالات، يجنّبه الأخطار، ويبقيه على قيد الحياة. نحن البشر أيضاً، يضعنا السرد داخل العالم، ويمنحنا مكاناً فيه. في القرية، لم تكن القصص تُروى، بل كانت تُعاش. لكننا استبدلنا الآن السرد الحيّ بتواصل رقمي على الشبكات الاجتماعية، حيث «المجتمع الذي كان من دون تواصل حلّ محله تواصل من دون مجتمع»، كما يقول بيونغ-شول هان. برلين قطعت الخيط الذي كان يربطه بالقرية، واستبدلت السرد بضوضاء رقمية. لقد فقد النجم الذي كانت يرشده، وربما إلى الأبد.

صورة تجريدية للكنيسة

المشهد كما تخيله الذكاء الاصطناعي

هدأ «ليو» على غير عادته، إذْ نادراً ما يفعل ذلك. على الأرجح أن لديه، مثل البشر، اضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة؛ سلوكياته تدل على ذلك. مع هذا، أصبح الآن يمشي بالقرب منه وبالإيقاع ذاته، يلف برأسه إلى الأعلى، وينظر إليه نظرة الفاهم. لعله شعر أن صاحبه كان مكروباً. تساءل في نفسه: «كيف يفكر ليو فيّ كإنسان؟» نيتشه أيضاً فكّر مرّة في ذلك، وقال «إني أخاف أن تعد الحيوانات الإنسانَ كائناً من جنسها فقَدَ فطرته الحيوانية بأكثر الأشكال خطورة؛ أخاف أن تعدّه بمنزلة الحيوان الغريب الأطوار، الحيوان الضاحك، الحيوان الباكي، الحيوان الذي مآله التعاسة.» هل هو تعيس حقاً؟ ربما. يقول نيتشه: «لقد أطلقتُ اسماً على ألمي، وأناديه: كَلْبةً؛ إنها وفيّة، فضولية، قليلة الحياء، مسلية وذكية، مثل أي كلب آخر - وأستطيع أن أوبخها، وأرمي عليها سخطي مثلما يفعله آخرون مع كلابهم، مع خدَمِهم، ومع زوجاتهم.»

 

إلّا أن السعادة ليست حدثاً لحظياً، لدى شول هان، ليست صورة على إنستغرام أو مقطع فيديو على «تيك توك». السعادة لها ذيل طويل يمتد إلى الماضي. إنها ليست بنت المصادفة، بل تتغذّى على كل جزء من الحياة. ليس لها مظهر لامع كما يصوّره المؤثِّرون على إنستغرام؛ بل إنها مثل الشَّفَق؛ تلك الحُمْرة التي تُرى في الأفق بُعَيْد المغيب. ويفقد المرء سعادته، عندما ينغمس في دوّامة الواقع وأشيائه الطارئة.

 

في طريق العودة، عند تقاطع شارعٍ باسم الكاتب أرنولد تسفايغ، الذي لجأ إلى فلسطين إبان الحكم النازي، مع شارع «تريله بورغر»، انعطف يميناً، فبدت كنيسة «الأمل» الإنجيلية بطرازها المعماري في الفن الجديد، أكثر قرباً ومهابةً. البرج الذي يرتفع نحو 50 متراً عن الأرض ينتهي بجزء له ثماني زوايا، الشكل الهندسي المقدس، وقبّة، وفوق القبة هيكل قنديل يعلوه صليب. يحمل البرج ثلاثة أجراس تزن أكثر من نصف طن، بثلاثة أسماء: «الإيمان»، «الحب»، «الأمل»، وتقرع أيام الأحد في إيقاع احتفالي وقور. يدخل المصلون من الباب الرئيسي الذي يحرسه مثلث بداخله عين الله، وفي الأعلى ثلاثة تماثيل: في الوسط تمثال السيد المسيح يحميه ملاكان. دُمِّر أحد الملاكين خلال المعارك العنيفة التي دارت في محيط الكنيسة عام 1945، ورُمّم منذ ذلك الحين. وإلى يساره تمثال مارتن لوثر ممسكاً بالكتاب المقدس، وعلى الجانب الأيمن تمثال للرسول بولس مستنداً بيده على السيف. لم يستطع أن يتجاهل المفارقة في أنه جاء من المنطقة ذاتها التي جاء منها الرسول بولس. لكن يُنظَر إليه هنا بوصفه غريباً عن المكان، وطارئاً على الجغرافيا، بينما تُقام تماثيل الرسول بولس في الكنائس.

 

لم تكن الجغرافيا يوماً مجرد مكان. كانت دائماً حيّزاً تتشابك فيه الحيوات. ولها أيضاً قوتها ورنينها، فهي فكرة وذكرى مشحونة بالتاريخ. الجغرافيا منسوجة في القصص التي تخلق تماسكاً اجتماعياً؛ تقدّم معنىً وتحمل قيماً. الأديان بحد ذاتها، سرد نموذجي؛ ومرساة لحياة الناس. بالدين يتعرّفون على مكانهم في هذا العالم.

 

كنيسة «الأمل» لا تجد في أيامنا هذه الكثير من المصلين. كانت في يوم ما رمزاً للمقاومة في برلين الشرقية، وكان لها أيضاً سردية. فقد كانت مركزاً ثقافياً واجتماعياً مهماً في برلين الشرقية، لحركات الشباب وموسيقى «البانك»، التي عارضت النظام الحازم في ألمانيا الشرقية. استطاعت الكنيسة عام 1988 أن تقيم حفلة لفرقة «دي توتن هوزن» الألمانية الغربية، بعد أن أدخلتهم سراً بوثائق مزوّرة تحت ستار النشاط الثقافي الكنسي، تهرباً من قبضة جهاز الأمن الـ«شتازي» الصارمة. أُقيم الحفل في باحة الكنيسة الخلفية، التي اعتاد «ليو» أن يلعب فيها ويقفز ويقضي حاجته. كان الحفل صغيراً في عدده، لكن كبيراً في رمزيته، بأن أتاح للشباب التجمع والتعبير عن أنفسهم بحرية. لم تكن للفرقة شروط، فقط: بيرة مجانية مفتوحة، وتغطية تكاليف ما يدمّره الشباب في «ثورتهم» الصغيرة.

 

هو أيضاً كان له ثورته الصغيرة، عندما انضم، وهو لا يزال في الخامسة عشرة من العمر، إلى حزب سرّي تعرّض أعضاؤه للاعتقال والتعذيب. كان «حزب العمل الشيوعي» معارضاً يريد الإطاحة بالنظام السوري في ثمانينيات القرن الماضي عبر ثورة شعبية. الحق، كان حزباً فريداً معارضاً للجميع. عارض الأنظمة الديكتاتورية، عارض الاتحاد السوفييتي وستالين، عارض الصين وماو تسي تونغ، عارض أنظمة أوروبا الشرقية ومعسكرها الاشتراكي، عارض الدين، وعارض القوميين الناصريين، عارض حزب خالد بكداش الشيوعي، عارض حزب رياض ترك الشيوعي أيضاً، عارض الإخوان المسلمين. عارض كل شيء، مع ذلك كان له سردية. يتذكر القشعريرة التي كانت تسري في جسده عندما يتوجه إلى موعد للقاء أحد رفاق الحزب. كل ما كان يعرفه هو مكان اللقاء ووقته. لم يكن يعرف شكل الشخص الذي سيلتقيه، لا اسمه، لا عنوانه، لا عمره ولا جنسه. عليه الذهاب إلى مكان محدد في وقت معين حاملاً في يده علامات بعينها، وسيأتي إليه شخص آخر، هو أيضاً يحمل علامات، فيتبادلان سؤالاً وجواباً سرّيين للتعارف. كان يذهب إلى الموعد وكأنه سيلتقي حبيبةً. «السردية» التي تبناها أعضاء الحزب، كانت تجمعهم وتشعل فتيل المحبة فيما بينهم.

رجال الأمن في عامودا

المشهد كما تخيله الذكاء الاصطناعي

يوم الخميس 3 ديسمبر 1987، كان عائداً إلى المنزل قبل المغيب، ومرّت من جانبه سيارة البيك-آب الشيفروليه التابعة للمخابرات العسكرية في بلدة عامودا التي انتقلت إليها أسرته قبل 7 أعوام ليتمكن من إكمال دراسته. حدث ذلك قبل 128 يوماً من حفل فرقة «دي توتن هوزن» في باحة الكنيسة. تسلل الشك إليه عندما رأى رجلاً ملثّماً في السيارة، لكنه تجاهل الأمر، واستمر في طريقه حتى وصل إلى المنزل. هناك، وجد شقيقه الأكبر ينتظره عند الباب الرئيسي. أخبره أن أختهما المقيمة في تركيا أرسلت برقية، ويجب عليهما الذهاب حالاً إلى مكتب البريد لاستلام البرقية.

 

كان يوماً بارداً، بغيوم متفرقة، والشمس تلامس خط الأفق باتجاه الغرب. صعد ببطء الدرج الذي يؤدي إلى بوابة مكتب البريد. بإمكانه أن يقسم أن ألف صوت كان يخبره ألا يفعل ذلك. لكنه فعل. كان شقيقه الأكبر قلقاً بما فيه الكفاية بشأن أخته. قاد الطريق إلى أعلى الدرج من دون تردد. وصلَا إلى قاعة مكتب البريد الفارغة، كان هناك رجل واحد فقط. عرف أنه الموظف في مكتب البريد الذي طلب من أخيه الانتظار، ثم قاده بهدوء إلى باب خلفي، ونزلا معاً إلى غرفة في الطابق السفلي. كان رئيس مفرزة المخابرات العسكرية ينتظره هناك. أومأ برأسه، فغادر الموظف، وأغلق الباب خلفه. طلب منه أن يجلس على الكرسي، وجلس هو إلى مكتب عريض داخل الغرفة. لم يتحدث. لم يسأل. لم يبتسم. وتجنب النظر إليه، مع أنه ليس سوى مراهق، ويُعدّ قانونياً على الأقل حَدَثاً لم يبلغ سن الرشد.  لا بد أنه تلقى توبيخاً عنيفاً من مدير فرع المخابرات العسكرية في مدينة القامشلي المجاورة، بسبب فشله في كشف «المؤامرة» التي دبرها هذا المراهق للإطاحة بالرئيس حافظ الأسد. في النهاية، شعبة المخابرات العسكرية في مدينة حلب هي التي اكتشفت «المؤامرة». ومن المرجح أنها بدورها قد وبخت مدير الفرع في القامشلي. في سوريا يعيش الناس في سلسلة من الإذلالات، لدرجة أنه عندما تصل إلى المواطن العادي، فإن دائرة الإذلال تكون قد توسعت إلى مستوى يصعب على العقل البشري تخيله.

 

بعد قليل، دخل إلى الغرفة نحو عشرة عناصر من المخابرات، ملثمين، بكامل معداتهم العسكرية، قادمين من القامشلي، يحملون بنادق ومسدسات وأحزمة ذخيرة مشدودة بإحكام إلى خصورهم. طلبوا منه الخروج معهم، واقتادوه خارج المبنى، وهم يصوبون بنادقهم إلى رأسه، ووضعوه، وسط الصرخات، في السيارة قبل أن ينتبه المارّة في الشارع. اكتشف أن شقيقه قد أُدْخِل إلى السيارة بالفعل. أخذوه كإجراء احترازي كي لا ينكشف أمر الاعتقال قبل أوانه أو إثارة ضجة غير ضرورية أصلاً، لا سيما أنهم كانوا يخططون لاعتقال آخرين. كانوا يدركون أيضاً أن والده كان أحد وجهاء المنطقة، ولا يريدون إثارة أي حساسيات عشائرية، أو سياسية في البلدة الصغيرة ذات الغالبية الكردية.

 

لم يكن معجباً بوالده الذي توفي قبل اعتقاله بـ 3 سنوات في حادث سير وهو لا يزال في الـ63 من عمره. والده أيضاً عانى مشكلات في القلب. كان يقود السيارة مع أربع من بناته وثلاثة من أبنائه الصغار، وزوجته وشقيقته. لا يدري أحد كيف وقع الحادث. لم يصطدم بسيارة أخرى، ولم تنفجر العجلات، بكل بساطة خرجت السيارة عن السيطرة، وانقلبت في منخفض بجانب الطريق. نفد الجميع بكسور وجروح ورضوض، إلا هو وشقيقته توفيا في اليوم نفسه، وفي المكان نفسه. كانت علاقتهما استثنائية، لا يمكن لأحدهما أن يخرج عن رأي الآخر. اعتادت أن تقول له: «لا ابتلاني الله بغيابك»، فيرد عليها: «بل لا ابتلاني الله بغيابك»؛ شاءت الأقدار أن يموتا معاً.

حادث سير

المشهد كما تخيله الذكاء الاصطناعي

على مدار 40 عاماً، ظلّ يعتقد أن والده كان متسلطاً. تزوج أربع نساء، وأنجب 23 ابناً وابنة، وربما عشرة آخرين أو أكثر لم تُكتب لهم الحياة؛ توفّوا في سن مبكرة. في خمسينيات القرن الماضي، كان يمتلك أراض شاسعة، وقرى بأكملها. لديه مَنْ يفلح أراضيه ويزرعها ويحصدها. لديه مَنْ يرعى المواشي. وإن دخل في عداوة، لديه مَنْ يدافع عنه، وإن تطلّب الأمر يفتده. وإن مرض تقم الدنيا، ولا تقعد، تتبادل زوجاته سريره كي يبقينه دافئاً. حتى عندما يأخذ القيلولة، كان هنالك مَنْ يدلّك رأسه، وآخرَان يفركان قدميه، وآخرون يتبادلون الأدوار في تهويته بالمراوح اليدوية في الطقس الحار إلى أن يستيقظ. كان محبوب النساء، نظرة منه تجعل البسمة لا تفارق شفاههن طوال الليل. حتى إنَّ نساء كثيرات كن مقتنعات أنه لا يقضي حاجته مثل البشر العاديين. كان حكّاءً فريداً؛ يسرد ويسرد، فيخيّم الصمت على الحضور، ينقلهم، عقلاً وجسداً، إلى عوالم ما كانوا ليحلموا بالوصول إليها. لو لم يكن كذلك، لما استطاع إدارة الأزمات التي كانت تأتي إليه في مضافته الطينية الواسعة. فمن أعقد المشكلات التي قد يتذابح عليها الرجال، إلى أبسطها، يفكك عقدها بالقصص. حتى الرجال القساة وهُم على شفير ارتكاب الجريمة، كانوا يذوبون بين يديه، يتلوّون، ثم يستسلمون. كان لشخصيته هالة.

 

في السنوات العشر الأخيرة قبل وفاته، فقدت القرية قدرتها على الصمت والإصغاء. وبدأت هالته تتلاشى تدريجياً، بعد أن خسر جزءاً كبيراً من ممتلكاته، بسبب الإصلاح الزراعي الذي فرضته السلطات السورية على أصحاب الأراضي. كانت تهدف إلى تعريب المنطقة التي يسكنها الكرد، فاستولت على الأراضي، ومنحتها لمستوطنات العرب الجديدة، بعد أن اقتلعتهم من أراضيهم على ضفاف نهر الفرات في الرقة ودير الزور، وزرعتهم وسط القرى الكردية. لا العرب كانوا سعداء بفقدان أراضيهم، ولا الكرد أيضاً. وبات كل واحد يريد إقصاء الآخر. تنافس الجميع ضد الجميع، وانقسمت السردية إلى سرديات صغرى؛ إقصائية وتمييزية، ومعها تفكك المجتمع.

 

حقاً، لقد اُبْتلي هو أيضاً بشغف والده بالسرد. فالفعل السياسي؛ بمعناه الحقيقي يقتضي -ضمناً- السرد. إن لم يكن هذا الفعل قابلاً للسرد؛ تردّى إلى مجرد ردود أفعال عرضية طارئة. تقول حنّة آرنت:

لأن الفعل والقول، اللذين، كما مرّ سابقاً، لا يمكن فصل عُراهما في التصور الإغريقي للسياسة، هما في الواقع النشاطان اللذان ستكون نتيجتهما النهائية دائماً قصةً متّسقة بما فيه الكفاية لجعلها قابلة للسرد، مهما بدت أحداثها الفردية والأسباب التي أفضت إليها عرضية أو عشوائية.

السرد أوصله إلى سيارة المخابرات وإلى تلك البنادق الموجهة إلى رأسه. السرد بطبيعته يتطلب «الإصغاء» الذي يعني بالضرورة اعترافاً بالآخر. الوضع داخل سيارة المخابرات كان عكس ذلك. كان صراخاً. كان إقصاءً

بعد 6 سنوات و3 أشهر و29 يوماً خرج من السجن. تعرّض للضرب بالكفوف، بالأرجل، بالعصي، وهو مغمض العينين. وُضع في الدولاب، وضُرِبَ بالكابل الرباعي الذي ينتزع معه قطع الجلد. هدّدوه بالكرسي الألماني؛ ولحسن حظه لم ينفّذوه. تذهب بعض التوقعات إلى أن الكرسي الألماني كان إحدى الأفكار الجهنمية التي أتى بها ألويس برونر، اليد اليمنى لأدولف آيخمان في المعسكرات النازية. استطاع برونر الهرب بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، ولجأ إلى سوريا، وبات مرجعاً لدى أجهزة المخابرات السورية. في الكرسي الألماني، يشعر المرء بأن روحه تخرج من جسده قطرةً قطرة، وأن عموده الفقري يتكسر.

 

لكن الأبعد أثراً من كل ذلك، كان فقدان السرد. فسقوط جدار برلين عام 1989، ثم حرب الخليج عام 1991، ضرب بالسرد عُرْض الحائط، وسلب عالمَه السحرَ الذي كان فيه.

 

عندما خرج من السجن، كان العالم المحيط به قد تغير. عالم بات له سرديات كثيرة: الليبرالية، النيوليبرالية، الديمقراطية، المجتمع المدني، النسوية، البنيوية وما بعدها، التفكيك، الاستعمار وما بعده، الدراسات الثقافية، العشائرية، الطائفية، الإسلاميون.. إلخ. السرديات ليست أبدية؛ تُولد وتكبر وتضمحل، لكن عندما تُفْقَدْ، فإن الجميع يبحث عن بدائل.

 

عدم اليقين كان قد تفشى، لدرجة أنه مرّة أقنع الجالسين معه، ويزيدون عن عشرة، أن بمقدوره الطيران. تبعوه إلى باحة المنزل ليشهدوا الطيران المعجزة بأعينهم. ضحك في ذلك اليوم حتى فاضت عيناه بالدمع، ولم تعد عضلات بطنه قادرة على حمله. لم تكن البهجة من طبعه. كان يميل أكثر إلى الفيلسوف الألماني إرنست يونغر، الأكثر غزارة في الإنتاج وغرابة في الأطوار، عندما قال: «قل لي ما علاقتك بالألم، أقل لك مَنْ أنت».

 

ثمة رهاب عالمي تجاه الألم في عصر ما بعد السرد. لقد أُقصيَ الألم تدريجياً، حتى تكاد تكون القدرة على تحمله قد انعدمت. لم يعد مرغوباً فيه؛ صار «رهاب الألم» (الألغوفوبيا). لم يعد مقبولاً أن تتألم في عصر إنستغرام و«تيك توك»، عصر الفرح الدائم، والإنجازات المستمرة، عصر الأرداف الناعمة، والعضلات المفتولة القوية، عصر الصدور الناهدة، والأكتاف الرياضية العريضة. بات الألم عيباً وعلامة على الضعف يجب إخفاؤها. لكن ليس بالنسبة إليه. كان يحتفي بالألم. حتى خلال سنوات السجن الذي هو بطبيعته مكان إقصاء وإبعاد ونبذ، كان يختار الزاوية المنسيّة في المهجع ليمدّد فيها فراشه الذي ينام عليه. إقصاءٌ داخل إقصاءٍ. هناك كان يشعر بالألم العاري. كانت تنتابه تلك «القشعريرة» البدائية، التي تحدث عنها الفيلسوف تيودور أدورنو، عندما تُستثار لدى رؤية «الجَمَال الأوّل»؛ عندما ينتابك ذاك الحب الذي يجعلك تحب الأشياء كلها دفعة واحدة. فالحياة التي تنبذ الآلام، هي حياة بليدة.

 

لا تزال هذه الآلام تنتابه، في كل مرّة يتذكر فيها ذاك المساء عندما ارتدى ثيابه، خرج من المنزل في جسر النحاس بدمشق، نزل الدرج القصير، قطع الممر الطويل، ثم قطع الشارع إلى الجهة المقابلة، رفع يده ليتوقف سرفيس المتحلق الشمالي، صعد إليه، فكّر طوال الطريق بما سيقوله، أعاد الجُمل مرّة، ثم ثانية، ثم ثالثة خلال الـ30 دقيقة التي تستغرقها المسافة، وأعادها مجدداً، نزل من السرفيس عند مستشفى المواساة، مشى بهدوء نحو المدينة الجامعية، لا يسمع صخب الشارع ولا يرى الناس الذين يسبّبونه، أظهر بطاقته الجامعية للحارس على المدخل، عبَرَه، مشى بهدوء 85 متراً بصورة مستقيمة، ثم التفّ يميناً، ومشى بهدوء أيضاً 140 متراً وبصورة مستقيمة، إلى أن وصل أمام مبنى الوحدة السادسة للبنات، صعد الدرج، أبلغ البوّاب أنه زائر، ويريد رؤيتها، نزل الدرج، ثم تأكد مجدداً من أن الجُمل لا تزال حاضرة في الذاكرة، أبلغها البوّاب بأن زائراً يريد رؤيتها، جلس على أحد المقاعد قبالة المبنى، وأعاد الجمل من جديد، كان ينظر إلى الدرج، إلى الخارجين والداخلين، من دون ملامح؛ لم يكن سعيداً، ولا حزيناً، كان خائفاً، فرائصه ترتعد، رآها قادمة تهبط الدرج مبتسمة، وهي تنظر إليه، 15 عضلة في وجهها تحركت لتشكّل تلك الابتسامة، بينما تحركت في جسده أكثر من 500 ألف عضلة صغيرة ناصبة للشعر، لتبث في جسده القشعريرة، كانت جميلة.

المدينة الجامعية بدمشق

المشهد كما تخيله الذكاء الاصطناعي

منذ صغره كان يميل إلى الاختلاف. كان الوحيد الذي يتمرد علناً على والده، فيما أخوته كانوا يخشون سطوته. مع تقدمه في العمر، لم يعد يرى أن والده كان متسلطاً. لم يجد تفسيراً لشغفه بالسرد سوى أنه كان فاقداً للأمل. وعندما تفقد الأمل تكثر الانسدادات في الحياة. الروائية الدنماركية كارين بليكسن قالت يوماً: «لستُ روائية، ولا حتى كاتبة؛ أنا قاصّة.. إن الأحزان كلها يمكن تحمّلها إذا وضعتَها في قصة.» حقاً، كان والده يضع أحزانه في القصص التي يسردها. والآن، هو أيضاً يحمل أحزانه التي راكمتها سنوات السجن، ويقف أمام مبنى الوحدة السادسة، ينظر إلى الفتاة التي يحب؛ الفتاة التي تضع يدها اليمنى في الجيب الخلفي لبنطالها الجينز، تضحك وهي تميل رأسها إلى الخلف، وترفع ذقنها بما يكفي لتسمح للضحكة بالخروج بحرية. كانت فتاة مختلفة.

 

اقترح عليها الذهاب إلى مقصف المدينة الجامعة. المكان هناك أكثر هدوءاً، ثمّ إنّ تناول بعض البيرة سيجعله أكثر جرأة. سارا معاً. كانت فاتنة. تعرّف إليها بعد أن انتقل إلى دمشق قبل عام لدراسة الأدب الإنكليزي. عندما رآها أول مرة، كانت فتاة برّية تثير الرعشة في الأجساد. تحدّثا طويلاً وعن كل شيء، وشربَ البيرة قدر ما يستطيع حتى نسيَ الجُمل التي كان قد حفظها عن ظهر قلب. ولم يعرف كيف يبدأ. كان حريصاً منذ بداية تعرّفه عليها ألا يكوّن صداقة عميقة معها. ليس سهلاً كسر ديناميكيات الصداقة، والعبور بسلام إلى علاقة الحب. كانا يلتقيان أحياناً في جلسات شلة الجامعة. صديقان لكن من بعيد. أخيراً تمالك نفسه وقال لها إنها الفتاة التي يريد أن يعيش معها حياته. كانت صامتة. قال لها «لن تجدي أحسن مني»، وعرفَ مباشرة أن ما قاله توّاً كان كلاماً أخرق. ويبدو أنها أُخذت على حين غرّة؛ لم تكن تتوقع أن يحدث هذا. كانت الآلام التي تنتابه أشد من أن يتحمّلها، تمالك نفسه مجدداً، وقال «لا أريد جواباً الآن، فكّري في الأمر»، ثم غادر، وظلت صامتة.

 

عاد إلى المنزل تائهاً بلا وجهة؛ تركها خلفه في المدينة الجامعية. كان متعباً، منهكاً، لكن يملؤه إحساس بالسكينة يشبه ما كان ينتابه في زاويته المهملة في السجن. إمّا أن تنتهي القصة هنا وتكتمل، أو تستمر من هنا وتفتح احتمالات جديدة. وفي كلتا الحالتين، حرّك عجلة الحياة. أخبر زميله في السكن ألّا يوقظه في الصباح، ودخل غرفته ونام.

 

كان لا يزال تحت تأثير شرب البيرة من يوم أمس، عندما استيقظ على الأصوات في المنزل. فتح عينيه بمشقة، فوجدها تقف بكامل جلالها أمام سريره. طويلة. بهيّة. قفز من السرير واقفاً، وهو يجاهد لفتح عينيه على وسعهما. نعم، كانت هي؛ تقف هناك مبتسمة بنظرات تملؤها اللوم. لم يعرف كيف يتصرّف. توقف تفكيره تماماً. قال: «هل هذا يعني نَعَماً؟» فتحت ذراعيها الطويلين، وضمّته إلى صدرها. أبعدها قليلاً، وركض نحو زميله الذي أشغل نفسه في المطبخ كي يمنحهما مساحةً خاصة، وهو يقفز، ويصرخ: «قالت نعم».

 

اغتسل في الحمام، مزيلاً آثار النوم المتبقية، وعاد إليها حيث تجلس على طرف سريره في الغرفة. أغلق الباب، فوقفت هناك، مبتسمة، خجولة، تنظر في عينيه مباشرة، تتيقن من وجوده. ضمّها، وضمّته؛ يعتصر كل واحد الآخر، يريدان الاندماج في جسد واحد. قبّل جبهتها، عينيها، خدّيها، أنفها، ذقنها، ثم شفتيها، أسنانها، لسانها. لم يكن تقبيلاً بقدر ما كان استكشافاً، يتوقف عند كل بقعة، يتأملها، يلمسها، يشمّها، يقبّلها، يمرر لسانه عليها، ثم يخزّن البيانات في ذاكرته ويتابع. تماماً كما يفعل «ليو» في مشاويره اليومية. لم يكن مستعجلاً، ولم تكن مستعجلة.

 

كانا يختبران الحياة من جديد، تجربة جعلت سرد الحياة ممكناً، من دونه تصبح عارية. فقط مع السرد ترتفع الحياة فوق حقيقتها المجردة؛ إنه يضفي على الزمن معنى، يمنحه بداية ونهاية. من دون السرد، الحياة مسألة بقاء لا أكثر، تتوقف عن كونها ملحمة. بالسرد يدخل العالم في نظام متماسك التكوين؛ يوحّد الأحداث والأشياء في قصة واحدة، مهما بَدت تافهة وعبثية وعرضية. كانا يختبران من جديد الأشياء التي بترابطها أصبح لها معنى، غير معزولة، وبها إيقاع.

اللقاء الأول مع الحبيبة

المشهد كما تخيله الذكاء الاصطناعي

مسك بيدها، وسحبها إلى المساحة الفارغة وسط الغرفة؛ يريدها وحدها من دون إضافات. كانت مرتبكة، وغير متأكدة مما يجب عليها فعله. مدّ يده إلى الثُّلْمَةِ أسفل عنقها؛ ذاك المثلث الذي هو بمكانة نافذة صغيرة تطل على ما يجري داخل صدرها. كان يرتفع مع تنفسها، ويهبط، وينبض مع تسارع دقات قلبها. اللمس يحرّر التوترات والانسدادات؛ يعيد الأمور إلى نصابها، ويبعث الحياة مجدداً في تلك الثقة البدائية.

 

ساعدها في خلع ثيابها، ثم وقفت هناك. ابتعد قليلاً كي يتأمل جسدها؛ ثم عاد يستكشف تفاصيله؛ كل زاوية، كل انحناءة، كل عضلة. يلمس، يشم، يتذوق، وضع أذنه على صدرها ليسمع قلبها؛ كان الدم يتدفق منه حارّاً وفي الاتجاهات جميعها. رفعها على السرير، يقبّل عنقها، صدرها، إبطيها. أمسكته من شعر رأسه ووضعت فمها في فمه تدفع الهواء من صدرها إلى صدره، ثم تسحب الهواء من صدره إلى صدرها، في إيقاع منتظم. كانت تقبّل جسده، تتحسّسه، تلمسه. كان يدها شافياً، تحرّر آلامه. اليد التي تُلامِس تُشْفي مثل الصوت الذي يسرد. اللمس يخلق الثقة ويطرد الخوف.

 

كلاهما لم يكونا خائفين، على الأقل ليس الآن. أمضيا الأسبوعين التاليين، عاريين في الغرفة ذاتها، لا يخرجان منها إلا لتناول الطعام. تحدّثا، وضحكا، ولعبا، وقرأَ لها شعر محمود درويش، و«النبي» لجبران خليل جبران، وتبادلا الأدوار في أناشيد سليمان:

أنَا نَرجِس شَارُون، سَوسنَة الأوْدية.

كالْسوسنة بَيْن الشِّوك كذلَك حبيبَتي بَيْن البنَات.

 

كالتُّفَّاح بَيْن شجر اَلوَعِر كذلَك حبيْبِي بَيْن اَلبنِين. تَحْت ظِلِّه اِشْتهَيْتُ أن أَجلِس، وثمرَته حُلوَة لِحلْقي.

أَدخَلني إِلى بَيْت الخمْر، وعلَمُه فَوقِي مَحبَّة. أسْندوني بِأقْرَاص اَلزبِيب. أُنْعشوني بِالتُّفَّاح، فإنِّي مَرِيضَة حُبًّا.

 

شماله تَحْت رَأسِي ويمينه تُعانقني. أَحلِفكن يَا بَنَات أُورْشليم بِالظِّباء وبأيائل اَلحُقول، إِلَّا تيقَّظْن ولَا تنبَّهْن اَلحبِيب حَتَّى يَشَاء.

ثم يستمعان للموسيقى، ويمارسان العلاقة الحميمة المرّة تلو المرّة، لا يتوقفان إلا عندما ينامان.

أدرك «ليو» أن المشوار يقترب من نهايته عندما وصل إلى القوس العملاق ذي الطرفين الدائريين الذي يشبه علامة اقتباس معقوفة تزيّن دكّة المدخل إلى كنيسة «الأمل». علامات الاقتباس في اللغة محيّرة. فهي تدلّ على الثقة عندما تستشهد بكلام شخص آخر حرفياً، وتدلّ على الشك عندما تضع مصطلحاً بين قوسين تحفّظاً حول مصداقيته. الأديان أيضاً محيّرة. فكنيسة «الأمل» كانت لها أمجادها بمدخلها ذي السقف باللون الليلكي، والجدران الوردية، والأعمدة الرمادية الفاتحة، ثم لأزرق الملكي عند المذبح المرصّع بالنجوم. شهدت الملائكة الـ 36 داخل صحن الكنيسة خلقاً كثيراً جاؤوا، وتعبدّوا، وطلبوا من الله أن يغفر لهم ذنوبهم، أو يفتح لهم باباً للرزق، أو مجرد التقرّب منه ابتغاء للرحمة، ثم مضوا في حال سبيلهم. الكنيسة التي كانت تُشْعر بالألفة والحميمية لم تعد كما كانت.

 

توجّه «ليو» إلى بقعته المفضلة عند الطرف الدائري للقوس، وتبوّل هناك تاركاً رسالة للكلاب التي ستأتي بعده. الكلاب لم تكن كلاباً دائماً. قبل 20 ألف سنة فقط، قام البشر بمجازر واسعة قضت على الحيوانات الكبيرة، ولم ينج منها سوى الدببة البنية والذئاب التي وجدت الفرصة سانحة للتزاوج والتكاثر، فازدهرت في بقاع الأرض، حتى اضطرت إلى التماس مع الإنسان. اكتشف بعضها أنّ الطعام الذي يخلّفه البشر وراءهم له طعم لذيذ يستحق العناء. ثمّ أنها بدأت تتقرّب منه، وتحاول فهمه إلى أن تخّلت عن كونها ذئاباً، وأصبحت كلاباً أليفة. لم تضطر إلى تغيير الكثير في طبيعتها البيولوجية، لا تزال 99,9% من جيناتها جينات الذئاب، فقط استطاعت أن تفهم الإنسان أكثر، وتتبنى تعابيره. تعلمت كيف تظهر غضبها، قلقها، ألمها، وحزنها.. من الإنسان، وصارت قادرة على التواصل معه أكثر من الحيوانات الأقرب إليه بيولوجياً. لقد أصبحت رفيقاً للإنسان، حتى إنه في ألمانيا وحدها، هنالك أكثر من 10 ملايين كلب، ينفق أصحابها سنوياً أكثر من 6 مليارات يورو على إطعامها، ورعايتها الطبية، والتأمين ضد المسؤولية، والإكسسوارات، والتدريب، ومجالسة الكلاب، ورسوم التسجيل.

 

عندما قدم لاجئاً إلى ألمانيا عام 2012، كان يجد صعوبة في مخالطة الألمان. «ليو» فتح له الباب على مصراعيه، فهو الآن يعرف جميع كلاب الحي، ويعرف أصحابها الذين يبادرونه بالحديث عن الكلاب الفاتنة الجميلة. كسر «ليو» الحواجز الاجتماعية التي بناها الإنسان تجاه إنسان آخر يشبهه تماماً، وفقدا السردية التي كانت تجمعهما قصة واحدة.

 

مجتمعات اليوم تقوم على المعلومات. مجتمعات تعرف أينَ ذهبتَ، وماذا اشتريتَ، وكيفَ أكلتَ، ولماذا سافرتَ. مجتمعات تقوم على تدوين تفاصيل الحياة اليومية على الشبكات الاجتماعية، تجعل الخاص عاماً. مجتمعات شفافة وعارية. مجتمعات انفصلت عن السرد فأصبحت غير مستقرّة؛ وفقدت تلك الهالة. زمن ما بعد السرد هو زمن لا انغماس فيه، زمن ذاكرته رقمية عابرة وطارئة.

 

على النقيض من الذاكرة الرقمية التي تقوم على التراكم والإضافة، فإن الذاكرة البشرية ذاكرة سردية تنتقي الأحداث، بحذف بعضها وإبراز بعضها الآخر، ثم تربطها بصور مختلفة؛ بصور لا نهائية. الذاكرة السردية تقوم على الفجوات؛ ذاكرة قادرة على النسيان.

 

لم تكتمل قصة الحب. انفصلا بعد 4 سنوات. أحبّا، وكَرِها. توافَقَا، وتخَاصَما. تحاضَنَا، وتبَاعَدَا؛ لقد كانت تستحق العناء. بعد انفصالهما مباشرة سافر إلى العمل في الإمارات. ولم يلتقيا مجدداً إلى أن جمعتهما الصدفة بعد 17 سنة. الحرب في سوريا وظروف الحياة أرهقتها، وتوقفت حياتها عن السرد. عندما لا يعود بالإمكان السرد، فإن الحكمة تتدهور، وتصبح الحياة مجرّد صراع مرير بحثاً عن الحلول للمشكلة تلو الأخرى.

 

كان «ليو» يقفز، ويمرح ويحاول لفت انتباهه. يفعل ذلك عادة عندما يصبح المشوار في نهايته، محاولاً إطالته قدر الإمكان. فحياة الكلاب قصيرة؛ كل سنة من عمر الإنسان تعادل 7 سنوات في عمر الكلاب. لكن ما الفائدة من طول العمر؟ العلاقات التي كانت لها معنى، التي تنفي الطبيعة العرضية والتافهة للأشياء، تتحلّل تحت ناظريه، ورغماً عن أنفه. هل كان وجوده صدفة مثل حجر أو نبتة أو حتى ذرة غبار؟ لقد سارت حياته في الاتجاهات جميعها، اكتنفها الغموض والإثارة أحياناً، وفي أحيان أخرى تبدو مثل الطنين الذي لا يفارق أذنه اليمنى منذ سنوات.

bottom of page